في فهم التحديات المنتظرة التي تواجه المنطقة، خاصة في ما يتعلق بالملف الإيراني، نجد أن الإستراتيجيات الأميركية والإسرائيلية تتأرجح بين فكرتين متباينتين: حكمة صن تزو التي يتبناها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ونظرية الحرب الحادة التي يتبناها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. هذه الإستراتيجيات تمثل بُعدا فكريا وثيق الصلة بالظروف الجيوسياسية الراهنة في الشرق الأوسط. عند تناول تحديات إعادة الاستقرار للمنطقة إن تزامنت العوامل وتباعدت المناظير بين ترامب وإسبارطية نتنياهو فلا يمكن إعادة نقاشها دون تناول إيران وميليشياتها، وبدرجة متقدمة أكثر برنامجها النووي. بحسب صن تزو في فن الحرب “ذروة المهارة، أن يخضع العدو دون قتال” وكذلك “المقاتل الحكيم، هو من يتجنب المعركة.” ومما يجعلني أميل لمثل هذه المقاربة، هو إعلان الرئيس ترامب استمراره في العمل بفقه إنهاء الصراعات واستعادة التنافسية الأميركية، والكفاءة الإدارية. ترامب رغم شخصيته العدوانية، إلا أن في داخله رجل الأعمال المصلحي البراغماتي، الذي يقدم الصفقات على المواجهة والحرب، التي في باطنها كلفة عالية على الاقتصاد والمواطن الأميركي، دون الاكتراث بالأبعاد الإستراتيجية والجيوسياسية على المصالح الأميركية. قد تكون مقاربة ترامب مقبولة إلا أن شروط نجاحها ناقصة، حيث لا يكفي تبني سياسة احتوائية لدولة تمتلك أدوات غليظة. فالعقوبات التي تمت تجربتها منذ عقود لم تحقق هدفها السياسي في تغيير سلوك إيران الإقليمي، أو تفكيك أدوات مشروعها الإستراتيجي. كما أن انسحاب ترامب من الاتفاق النووي في 2018، منح إيران مساحة من الزمن والحرية، ما مكّنها من رفع كفاءة التخصيب إلى مستويات غير مسبوقة، والوصول بدرجة تخصيب اليورانيوم إلى نسبة 90 في المئة، ما يعني أن إيران اليوم قد وضعت إحدى قدميها على عتبة الاقتدار النووي. كذلك، يجب أن نستحضر الهجمات على منشآت النفط السعودية (بقيق وخريص) في 2019 من قبل إيران، والتي تبنت الميليشيات الحوثية مسؤوليتها. ردة الفعل الأميركية كانت سلبية ولم تحقق أي درجة من الردع، لتتكرر الاعتداءات على السعودية بالإضافة إلى أبوظبي في 2022. كما أن رد ترامب على سؤال بعد الاعتداءات على منشآت أرامكو، كان محبطا وأكثر تشجيعا لإيران، حيث قال “الضربات لم تكن على أميركا.” يبدو أن المنطقة على شفا تحول إستراتيجي كبير، حيث يمكن أن تتحول معركة إيران إلى صراع متعدد الجبهات. الأخطر من ذلك أن تغرق المنطقة في سباق تسلح نووي إذا لم تتم معالجة الملف الإيراني بشكل حاسم تحييد الخصم من منظور كلاوزفيتز “أن الغاية من الحرب هي تجريد العدو من سلاحه.” ولو أردنا إجبار العدو على الخضوع، فلا بد من وضعه في موقف أسوأ، حتى من التضحيات التي نطالبه بتقديمها. بمعنى تحميله كُلفا باهظة لتحقيق الإخضاع، وإلا فإنه لن يستسلم، بل سينتظر إلى حين تحسن الظروف أو تغير الموقف. ذلك ما حدث مع إيران تماما خلال سنوات ترامب حتى مرحلة بايدن. استغل الإيرانيون تلك الحالة العارضة لمواقف الإدارات الأميركية حتى تحسنت ظروفهم فضربوا بقيق وخريص، ومن ثم فجروا طوفان الأقصى، وتبع ذلك تهديد الملاحة البحرية في البحر الأحمر. في رأيي أن نتنياهو أستوعب نظرية كلاوزفيتز، وتوصل إلى قناعة تامة بأن المرحلة والظروف وصلتا إلى نقطة تتطلب الحسم. تلك القناعة تستوجب أن كل تغيير سيحدث بفعل استمرار الحرب، أن يكون من النوع الذي سيزيد من حراجة موقف العدو، ما يعني تفاقم الظروف التي تجد إيران نفسها فيها عاجزة كليا عن إدارة عملية الدفاع عن نفسها. عمليا نتنياهو بدأ الخطوات الأولى من إحداث ذلك التغيير، بضرب وتدمير قدرات إيران الدفاعية المتقدمة في غزة ولبنان، وقد يصل الأمر لاحقا إلى تصفية تامة لجميع ميليشياتها في كل جغرافية المنطقة. كما قامت إسرائيل خلال الضربات الجوية الأخيرة على إيران، باستهداف مستودعات الطائرات المسيرة والصواريخ. كما تم في نفس الضربة تدمير أهم أصول الدفاعات الجوية S300، ما جعل سماء إيران بيضاء دون حماية. أعتقد أن إسرائيل قد تمكنت من إقناع المؤسسة العسكرية الأميركية بضرورة تحييد الخطر النووي الإيراني وأن لا يتم إعطاء إيران مساحة زمنية أخرى وحرية، كما حدث منذ عام 2018 إلى اليوم، إثر انسحاب ترامب من الاتفاق النووي، لتتحول إلى جبهة نووية. لذا أجد أن المبادرة قد أخذ بناصيتها نتنياهو من اليوم التالي من 7 أكتوبر، بالعمل على إضعاف قدرات إيران الدفاعية القريبة والبعيدة إلى الحد الذي يجعلها غير قادرة على الدفاع عن نفسها. ما نراه منذ أشهر من حشد للأصول الجوية من قاذفات إستراتيجية، وطائرات التزود بالوقود، بالإضافة إلى حاملات الطائرات في المنطقة، ينبئ بأن إسرائيل تتجه بقيادة معركة إيران، بتفعيل سكين نظرية الحرب لكلاوزفيتز التي يتبناها نتنياهو.. ختاما، يبدو أن المنطقة على شفا تحول إستراتيجي كبير، حيث يمكن أن تتحول معركة إيران إلى صراع متعدد الجبهات. الأخطر من ذلك أن تغرق المنطقة في سباق تسلح نووي إذا لم تتم معالجة الملف الإيراني بشكل حاسم.