هل يجب أن يكون الجميع مجندا لصنم ما؟ بمعنى ألا يُسمح بوجود رأي آخر خارج المنظومة؟ في خبر مثير مؤخرا، قيل إن “واشنطن بوست” خسرت 250 ألف مشترك، وكانت هناك استقالات جماعية بسبب قرار عدم دعم مرشحي الرئاسة الأميركية. وهذا يعيدني إلى المربع الأساسي، والسؤال الأهم: ألا يجوز للإنسان أن يمتلك رأيا ثالثا، رأيا مغايرا؟ ألا يجوز أن تكون هناك مساحة تشمل الجميع مثلا أو أن تكون هناك محاولة لشق طريق مختلف عن المألوف؟ أن تنادي بخيارات لرئاسة الولايات المتحدة مغايرة لما هو مطروح، لماذا على الأميركي والشرق أوسطي والعالم أجمع أن يعاني من ذات الوجوه المكررة؟ ألا يجوز أن يكون الإنسان في تناغم وحوار إنساني محترم مع من يختلف معه في الرأي والبصيرة؟ أن تكون هناك مساحة ومسرح يجمعنا ويشملنا؟ في النظام العالمي الحالي، غالبا الإجابة “لا”. أي سيضيقون الخناق عليك وسيستعملون كل وسائل الابتزاز وسيقاطعك السياسي والحاكم والشعب، لأنك قررت عدم الانحياز، لأنك قلت أنا أملك رأيا مغايرا، أو لا أريد دعم أي من الأطراف، لا أريد أن أكون تابعا. في أي غابة نعيش، وأي غوغائية وفوضى مخيفة نقطن، حين يكون “الموت” ثمن تعبيرك عن رأيك وفكرك. أي جحيم هذا الذي علقنا به إذا، ألا يوجد من يكسر المصفوفة ورتابتها؟ وهل يجب أن يكون الخيار دائما إما الفيل أو الحمار؟ ألا يمكن أن أشجع القرد مثلا؟ هل يجب أن يكون الخيار إما أنا معك فأعيش، أو ضدك فأموت؟ ألا يمكن أن أختلف معك في جزئية وأتفق معك في جزئية أخرى؟ ما حدث لواشنطن بوست هو مثال لما يحدث في ساحة العالم ويعكس القيم في النظام العالمي والأخلاقيات التي يتم تطبيقها في كل بقاع الأرض، مع اختلاف الأدوات والأساليب والنسب والطرق. بداية، المال هو من يحكم في هذا العالم للأسف، والمصالح السياسية ومصالح النخبة هي الأهم في هذا العالم، وهم سيفعلون كل شيء لتحطيم الخصم ولتجميع الغنائم بما يعود عليهم بالنفع، ضاربين عرض الحائط بكل القيم الإنسانية والأخلاقيات والديمقراطيات والحقوق وغيرها. هل يجب أن نكون جميعا أشبه بأغنام تابعة، نختار بين أزرق وأحمر في هذا العالم؟ ألا يمكنك أن تصمد في هذا العالم إلا بتقديم ولائك لطرف ما؟ جل ما يفعله النظام العالمي الحالي، من شرقه إلى غربه، أن يوهمنا بامتلاك حق الاختيار، حق حرية الفكر والتعبير، والواقع ما هو إلا وهم الاختيار بين خيارات محددة سلفا. ففي الولايات المتحدة مثلا، أنت مخير للاختيار بين فيل أو حمار، بين خيارات دولة عميقة حددتها لك سلفا، بأجندتها وأهدافها وخطواتها. وفي دول أخرى كروسيا مثلا وغيرها، هناك ما يعتبر ضمن شكليات وهم الاختيار، لكن القيصر هو القيصر ولن يتغير. هل يجب أن أكون تابعا لحزب ما حتى أثبت لك مدى نجاعة فكري وانتمائي إلى بيتي وإنسانيتي؟ في النظام العالمي اليوم، الإجابة “نعم”. وإن كنت مستقلا فستكون على هامش الحياة، خارج المصفوفة، خارج السرب وخارج النجاحات والتقدير، سيفعلون كل شيء لمحوك عن الوجود. إن لم يفعل نخبة النظام ذلك، فالقطيع سيفعل. لأن الإنسان يريد شراء تجارب جاهزة في أغلب الأحيان. يريدون أن يكونوا جزءًا من المشهد واللوحة مهما كانت. لأن ذلك أيسر، أسهل. يقول عالم النفس إريك فروم “نحن أنفسنا، نقوم بتحويل أنفسنا إلى أشياء دون أن نعرف ذلك، نفقد فرديتنا على الرغم من حقيقة أننا نتحدث عنها كثيرا، نتبع القادة الذين لا يقودون، نعتقد أننا نتصرف بناءً على دوافعنا وقناعاتنا وآرائنا، ولكن في الواقع يتم التلاعب بنا من قبل صناعة بأكملها من خلال الشعارات، نحن منفصلون عن أنفسنا، نحن لا نشعر كثيرا وبالتأكيد لا نشعر بشدة، وكل ما نسعى إليه أن لا نكون مختلفين، ونحن خائفون حتى الموت من أن نكون على بعد قدمين فقط من القطيع.” يريدون الفرد في المجتمعات البشرية، مشتتا، يمشي بخطوات متأرجحة، خائفا، ثم إذا أراد الصمود، عليه أن يكون تابعا، أن يتحول إلى أداة صامتة بيدهم، أن يكون جنديا فيقدم نفسه قربانا من أجل بقائهم، أن يقول ما يريدون بعد مئات السنين من مكافحة الإنسان ومحاولة الفلاسفة والعلماء إيجاد صيغة حضارية للمجتمعات البشرية، بعد حروب طويلة وكثيرة، داخلية وخارجية، لم ينجح الإنسان في احترام إنسانيته وحقوقه ودساتيره، لم يستطع أن يصل إلى صيغة يضبط بها غوغائيته وسطوته، لم ينجح في إيجاد أغلبية مستيقظة مستنيرة. كل ما يحدث يبرهن على أن الديمقراطيات والحريات ما هي إلا أكذوبة، مجرد حبر على ورق، بات هشا ولا قيمة له مقابل كل الأحداث المتتالية التي تقع في أنحاء هذا العالم. نحن نعيش في مصفوفة تعمل من أجل مصلحة النخبة فقط. ويرفضون بشكل قاطع أي محاولة لإيجاد واقع مغاير لما هو متوفر اليوم، يرفضون قطعا أن يسمعوا لصوت الأجيال الجديدة، لا يمنحون الناس حق التفكير داخل وخارج الصندوق، لا يريدون للأجيال أن تستيقظ أو ترى واقعها المتشرذم بحقيقته. يريدون الفرد في المجتمعات البشرية، مشتتا، يمشي بخطوات متأرجحة، خائفا، ثم إذا أراد الصمود، عليه أن يكون تابعا، أن يتحول إلى أداة صامتة بيدهم، أن يكون جنديا فيقدم نفسه قربانا من أجل بقائهم، أن يقول ما يريدون. المهم أن يعمل على تعزيز وجود المصفوفة بدلا من محاولة الهروب منها وكسرها. في سياق آخر، يقودنا هذا إلى الشرق الأوسط، وفي سيناريوهات أكثر رعبا، إن كل من يحاول أن يعبر عن رأي مغاير في هذا الجحيم الأسود يُقتل. كم صحافي وصحافية قضوا في غزة إلى الضفة ولبنان بسبب الحروب المشتعلة؟ وكانت كل المؤسسات الدولية “المعطلة” عاجزة عن حمايتهم، وكل الحكومات في هذا العالم عاجزة عن حماية “حقهم في الحياة وحقهم في الرأي والتعبير”. في أي غابة نعيش، وأي غوغائية وفوضى مخيفة نقطن، حين يكون “الموت” ثمن تعبيرك عن رأيك وفكرك. أي جحيم هذا الذي علقنا به، أن يتعرض الإنسان لمضايقات تصل حد التشويه والاستهداف والقتل لمجرد محاولته ممارسة حقه في التعبير؟ أين الحكمة والحوار؟ أين الحضارة والمجتمعات المتطورة المتقدمة؟ أين المحاولات المستمرة في إيجاد مجتمعات آمنة مستقرة؟ أي بيانات هشة متطايرة نسمعها ليل نهار منذ عقود طويلة من مؤسسات دولية معطلة غير قادرة على حماية فرد واحد حتى من نيران هذا الجحيم. إن الإنسان أصبح عطبا كونيا، وجل ما يفعله تعزيز لمنظومة غوغائية، لا تحترم الإنسان ولا الإنسانية.