في كل حقبة زمنية تظهر مهن غير تقليدية ومثيرة تدعونا للتعمق في تفاصيلها وكشف أسرارها، ومعرفة كيف كانت تلعب دوراً محورياً في المجتمعات التي نشأت فيها. منذ بضعة أيام، شاهدت فيلماً يتناول واحدة من تلك المهن التي كانت شائعة في أواخر القرن التاسع عشر، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية. فيلم «أخبار العالم»(News of the World) من إخراج بول غرينغراس وعرض في 2020م، يروي قصة مهنة قراءة الأخبار أمام جمهور من الحاضرين، حيث يجسد الممثل الشهير توم هانكس شخصية «جيفرسون كايل كيد». ينتقل كيد من بلدة إلى أخرى حاملًا معه مجموعة من الصحف، ويختار منها مواضيع متنوعة ليقرأها لسكان تلك البلدات. كان السبب وراء انتشار هذه المهنة في ذلك الوقت هو قلة عدد القادرين على القراءة، بالإضافة إلى صعوبة وصول الصحف إلى بعض البلدات التي كان يتنقل بينها لقراءة الأخبار لسكانها. وهنا، لا أروي قصة الفيلم، بل أشير إلى سؤال بدأ يراودني بعد مشاهدته: هل كانت هناك مهن نادرة في مجتمعاتنا تشبه هذه المهنة؟. بالطبع، لكل مجتمع عبر التاريخ مهن ظهرت نتيجة للظروف الاجتماعية أو الاقتصادية السائدة، واندثرت مع تطور المجتمعات وتغير احتياجاتها. إذا ألقينا نظرة على تراثنا وتاريخنا، سنجد بعض المهن التي قد تبدو لنا اليوم غريبة، لكنها كانت بالغة الأهمية في زمانها. فنجد مهنة «الحكواتي» في المجتمعات العربية، الذي كان شخصاً متخصصاً في رواية القصص الشعبية مثل عنترة بن شداد وأبو زيد الهلالي وقصص ألف ليلة وليلة بالإضافة إلى العديد من الأخبار التي كانت تتداول في تلك الفترة، يجمع الناس حوله في الأسواق أو المقاهي أو المنازل، ويأسرهم بحكاياته وأساليب روايته. ظهرت هذه المهنة في العالم العربي واكتسبت شعبية واسعة في القرن التاسع عشر، حتى أصبحت جزءاً لا يتجزأ من التراث الشعبي. فلم يكن يخلو أي مقهى تقليدي في مدينة دمشق من حكواتي يقدم عرضه، والذي كان يختلف في مدته وفقاً لجدول المقهى، مما أضفى أجواء مميزة على هذه الأماكن وجعلها مركزاً للترفيه والتواصل الاجتماعي. يروي لنا التاريخ أيضاً عن مهنة «المنادي» أو «المسحراتي»، الذي كان يتجول في الأحياء لإبلاغ الناس بالأخبار المهمة أو لإيقاظهم للسحور خلال شهر رمضان. كان المنادي يُستخدم لإيصال المستجدات للمجتمع، مثل الأوامر الحكومية أو الأخبار العاجلة، نظرًا لعدم توفر وسائل اتصال فعالة في ذلك الوقت. كانت هذه المهنة تتطلب القدرة على التحدث بوضوح وجذب انتباه المستمعين، تمامًا كما يفعل قارئ الأخبار في فيلم أخبار العالم، الذي ينقل الأخبار من خلال قراءتها، في حين يعتمد المنادي على النداء لإيصال المعلومات للمتلقين. ومع مرور الزمن، تطورت وسائل الاتصال والإعلام، وبدأت تختفي تدريجياً هذه المهن التي كانت في وقتها جزءاً أساسياً من الحياة اليومية، ولكن لا يزال بعضها يعيش في الذاكرة الثقافية والتراث الشعبي، ويُحتفى بها في المناسبات الثقافية كوسيلة للحفاظ على الهوية والتاريخ. إذ تُنظم الفعاليات التراثية والمهرجانات الشعبية لتذكير الأجيال الجديدة بأهمية هذه المهن وكيف كانت تلعب دوراً في التواصل والترفيه وتعزيز الروابط المجتمعية. ففي مزاد صرام تمور الأحساء الذي أقيم مؤخراً، كانت «فعالية الحكواتي» إحدى الفعاليات المميزة في المهرجان، حيث جلس الحكواتي وسط الحضور، ينقلهم بأسلوبه المليء بالتشويق إلى عوالم الحكايات والروايات القديمة. مستحضراً القصص الشعبية التي كانت تُروى في الأسواق والمقاهي قبل قرون. إذاً، المهن النادرة ليست حكراً على ثقافة معينة أو فترة زمنية محددة، بل تعكس استجابة المجتمعات لاحتياجاتها وتحدياتها عبر العصور. فكل مجتمع يطوّر مهنه الخاصة لتلبية احتياجاته الفريدة، وهذه المهن قد تتغير أو تختفي مع مرور الزمن إذا تغيرت الظروف التي أدت إلى ظهورها. وربما نشهد قريباً ظهور مهن جديدة تتناسب مع متطلبات العالم الحديث، مما قد يؤدي إلى تراجع بعض المهن التقليدية الحالية أو اندثارها تماماً ، لتصبح جزءاً من التاريخ، كما هو الحال مع قارئ الأخبار، الحكواتي، أو المنادي.