قضيت ما يقارب خمسين عاماً تجوالاً في أرجاء الوطن، وكتبت عنه كثيراً، سواءً في تاريخ المدن أو في معالم وآثارها، وصدرت مجموعة كبيرة من المؤلفات ووصفت تلك المؤلفات المعالم والآثار التاريخية، فأغلب المواقع المشهورة والمعروفة تتبعت تاريخها وما قيل فيها من وصف أدبي أو شعر من العصر الجاهلي حتى تاريخ الكتابة عن تلك المواقع. علماً بأن السيارة التي استقلُّها إلى تلك المواقع مليئة بالمراجع والمصادر عن كل موقع، فتارةً من المنطقة الشرقية وتارةً من منطقة الجوف أو منطقة تبوك أو منطقة عسير، وغيرها من المناطق، وكلّ منطقة لديّ معلومة موثقة عن بعض آثارها، وصدفةً زرت خميس مشيط وإذا بعنوان كبير يتعلق (الخميس) ويقصد به هنا المدينة العسكرية أي: الجيش، ويفتخر أبناء عسير بالوطن ولاسيّما عسير، لذلك وضعت عنوان عسير= رجال+ خميس، ومنطقة عسير تميزت بشموخ قمم جبالها التي لا تعلوها أي قمم أخرى في الوطن الغالي، إذا ما استثنينا هامات رجالها، وكم كرّرت زيارة أبها: دعاني نحو أبها ما دعاني فليس لغيرها في القلب ثاني بلاد كل ما فيها جميل لها سحر ولا سحر الحسانِ ومن كانت إقامته بأبها فقد رزق الإقامة في الجنانِ وهذا الشعر لمحبّ أبها وقد ذكرتُه في كتابي (صيد الذاكرة الباصرة من آثار الوطن الحبيب قائمة أو داثرة)، وجمال أبها يغطي بقية جواهرها: خميس مشيط، وبيشة، والنماص، ومحايل، وسراة عبيدة، وتثليث، ورجال ألمع، وأحد رفيدة، وظهران الجنوب، وبلقرن، والمجاردة. أما موقع منطقة عسير فهي جنوب غربي المملكة العربية السعودية، ويحدّها من الشمال منطقة مكة المكرمة ومنطقة الباحة، ومن الجنوب منطقة نجران ومنطقة جازان وجزء من الحدود الدولية بين المملكة العربية السعودية والجمهورية اليمنية، ومن الشرق منطقة الرياض ومنطقة نجران، ومن الغرب منطقة مكة المكرمة ومنطقة جازان والبحر الأحمر، وتأتي مدينة أبها على رأس مدن المنطقة في الوقت الحاضر من حيث نموها وازدهارها، وبها مقر إمارة المنطقة التي يتبعها عدد من المحافظات تشمل: خميس مشيط، وبيشة، والنماص، ومحايل، وسراة عبيدة، وتثليث، ورجال ألمع، وأحد رفيدة، وظهران الجنوب، وبلقرن، والمجاردة. وتشكل منطقة عسير جزءاً من الدرع العربي، وتعود معظم صخور الدرع العربي -بما فيها صخور منطقة عسير- في تاريخها الجيولوجي إلى عصر ما قبل التاريخ، وصخور الدرع العربي نارية ومتحولة مثل الجرانيت والبازلت والكوارتز، بالإضافة إلى الصخور الرسوبية، ويلحق الدرع الحرات التي تنتشر بصورة غير متصلة على الأطراف الشرقية للدرع العربي، وتمتد إلى وادي رنية في أطراف منطقة عسير الشمالية الشرقية، بالإضافة إلى حرة كنانة الواقعة في محافظة البرك في الطرف الغربي من منطقة عسير، وعلى طول امتدادها في سهل تهامة، وتقسم منطقة عسير إلى أربعة أقسام من حيث التضاريس: السراة (سراة عسير)، تهامة عسير، هضبة عسير، المناطق الصحراوية والواحات. وقد كانت عسير مجالاً للدراسات السابقة على أن اسم عسير حالياً يمثل مصطلحاً جغرافياً يطبق على منطقة عسير، أما قديماً فقد كان يطلق على قبيلة عسير، فعسير لم تكن معروفة بوصفها وحدة جغرافية وإدارية خلال العصور الإسلامية المبكرة والوسيطة، لقد ظهر اسم (عسير) مصطلحاً سياسياً وجغرافياً أواخر القرن الثاني عشر وبداية القرن الثالث عشر للهجرة، وبخاصة عند الكتاب الغربيين، وإن كان مقتصراً في جغرافيته عند كثير منهم على أبها وما أحاط بها من جبال وتلال، وقد أثبتت الدراسات أن منطقة عسير لها تاريخ موغل في القدم ذلك من العصر الحجري وقيام حضارات مختلفة في بعض المواقع في منطقة عسير. ولعسير علاقة بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد ذكر برك الغماد (لمنعته وعلوّ شأنه) أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر. رواه البخاري، حينما قالا سعد بن معاذ الأنصاري والمقداد بن الأسود الكندري رضي الله عنهما للنبي صلى الله عليه وسلم: «لو اعترضت بنا البحر لخضناه، أو قصدت بنا برك الغماد لقصدناه»، وفي الحديث أن أبا الدرداء قال: لو أعيتني آية من كتاب الله عزَّ وجلَّ فلم أجد أحداً يفتحها علي إلا رجل برك الغماد لرحلت إليه، وقد ذكر برك الغماد محمد بن أبان بن حريز الخنفري فقال: فدع عنك من أمسى بغور محلها ببرك الغماد فوق هضبة بارح وكما ذكر أن الصحابي الجليل أبا بكر الصديق رضي الله عنه خرج مهاجراً إلى الحبشة قبل هجرته إلى المدينة، فلما بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة - زعيم قبيلة القارة- وقال لأبي بكر: مثلك لا يخرج، إرجع إلى بلدك فأنت في جواري، فعاد أبو بكر إلى مكة. رواه البخاري كما أن هناك مصانع للسلاح في مدينة جُرْش الأثرية قريباً من الخميس، حيث بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عروة بن مسعود وغيلان بن سلمة الثقفيين إلى جُرْش ليتعلّما صنعة العرَّادات والمنجنيق والدبابات، لذا تعتبر جرش مدينة صناعية تجارية بدليل أنها تصنع أنواعاً من الأسلحة مثل العرادات والمنجنيق والدبابات، إذن فعسير منطقة معروفة بمنعتها منذ القِدم، ولا يستطيع أحدٌ أن يمسَّ أي بقعة فيها إذا ما استثنينا أهلها، حيث عُرف عنهم الحبّ الشديد لوطنهم وبذل كلّ غالٍ ونفيس في الدفاع عنه، وخميس التي وردت تعني الجيش فقد عرف بهذه التسمية من بداية انتشار الإسلام حيث وردت في غزوة خيبر: فعندما رأى يهود جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: (محمد والخميس).. وعندما أشرقت شمس الإسلام في مكة المكرمة كانت عسير تعرف بمخلاف جرش، وكان سكان المنطقة آنذاك كغيرهم في داخل الجزيرة العربية وخارجها تصلهم أخبار دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وجهاده للمشركين الذي توج بفتح مكة المكرمة في العام الثامن للهجرة، مما أدى إلى دخول الناس في الإسلام، وبادرت معظم حواضر الجزيرة العربية بإرسال وفودها، فشهد العام التاسع حركة وفود العرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو العام الذي عرف بعام الوفود، وكان من ضمنها وفد جرش الذي تزعمه صرد بن عبدالله الأزدي، وضم نفراً من أزد السراة الذين أعلنوا إسلامهم بعد أن استقبلهم الرسول صلى الله عليه وسلم وطلب منهم العودة لجهاد من كان يليهم من أهل الشرك من قبائل اليمن، بعد أن أمر عليهم صرد بن عبد الله الأزدي الذي نجح في حصار جرش، وقتال أهلها ممن لم يستجيبوا لدعوته، حتى حملهم على الدخول في الإسلام، ثم توجه وفد آخر منهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فاستقبلهم الرسول صلى الله عليه وسلم مرحباً بهم قائلاً: «مرحبا بكم أحسن وجوهاً، وأصدقهم لقاءاً، وأطيبهم كلاماً، وأعظمهم أمانة، أنتم مني وأنا منكم» وأمرهم صلى الله عليه وسلم بالعودة بعد أن حمى لهم حمى حول مدينتهم على أعلام معروفة، وهكذا أصبح مخلاف جرش (عسير حالياً) إحدى الحواضر الإسلامية، واستمر ازدهارها، وحققت شهرة كبيرة من خلال دورها في تصنيع وتصدير الجلود والنسيج الذي استمر حتى القرن الخامس الهجري. كما اشتهرت منطقة عسير ببعض الأسواق التاريخية ويسمى أغلبها حالياً باليوم الذي تقام فيه هذه السوق وتعدّ الأسواق الأسبوعية من الظواهر المهمة في حياة سكان المنطقة، فإلى جانب أهميتها اقتصادياً بالدرجة الأولى، فقد كانت تؤدي دوراً اجتماعياً كبيراً لا يقل أهمية عن الدور الاقتصادي، وذلك من خلال توظيفها لحل النزاعات بين القبائل، وتبادل الأخبار، وتبليغ الإعلانات، وفداء الأسرى، وغير ذلك. وبالرغم من أن الأسواق كانت تقام في معظم المدن في المنطقة، فإن أهميتها ودرجاتـها تتفاوت تبعاً لأهمية القبيلة أو العائلة التي تضطلع برعاية وتنظيم شؤون السوق، والتي عادة شيخها بمكانة اجتماعية مرموقة لا تقتصر على أفراد قبيلته فحسب وإنما بين شيوخ وأفراد القبائل الأخرى أيضا. إن أهم ما يميز هذه الأسواق هو أنـها تقام في معظم المدن في أيام مختلفة تمكن التجار من التنقل من سوق إلى آخر، وعلى نحو يتيح لأكبر عدد من السكان الاستفادة من البضائع التي تروج عن طريق هذه الأسواق في أكثر المدن، ومن أبرز هذه الأسواق: سوق الخميس في خميس مشيط، وكان من أبرز الأسواق وارتبط بآل مشيط، سوق الثلاثاء في مدينة أبها، ويعرف بثلوث أبها، ويعد من أبرز الأسواق التي قامت بلدية عسير بإحيائها في الوقت الحاضر. ويرتبط بالأسواق الطرق الموصلة إليها حيث كان الطريق التجاري القديم يبدأ من جنوب الجزيرة العربية، فيمر قريباً من نجران، ثم يتفرع عند بئر حمى إلى فرعين رئيسين: الأول يتجه إلى الشمال الشرقي مروراً بالفاو «قرية» والأفلاج، ويعبر اليمامة إلى الهفوف التي كانت تعرف بالجرهاء قديماً، ثم يتجه بمحاذاة الخليج العربي (البحرين) شمالاً إلى بلاد ما بين النهرين، في حين يتجه الفرع الآخر من الطريق إلى الشمال الغربي من الجزيرة العربية عبر وادي تثليث، ثم ينحرف إلى الغرب مروراً بالأطراف الشرقية من عسير وربما يمر عبر جرش قريباً من خميس مشيط، ويستمر عبر جبال السراة حتى الطائف، ثم يتجه منها إلى مكة المكرمة ثم المدينة المنورة، ومنها إلى العلا والحجر، ومن ثم إلى البتراء وبلاد الشام، وصولاً إلى مصر عبر سيناء. كما يمر عن طريق منطقة عسير طريق الحاج اليمني حيث كانت الطرق عبر جبال السراة على قدر كبير من الأهمية في حياة سكان المنطقة، حيث كانت هي وسيلتهم للوصول إلى مكة المكرمة من جهة، ولتصدير منتجاتهم وتأمين احتياجاتهم من جهة أخرى، لقد كان هذا الطريق يفي بغرضين في غاية الأهمية هما الحج والتجارة ليس فقط لسكان السراة وإنما لكل من يستفيد من هذا الطريق. كما اشتهرت منطقة عسير بالرسوم والنقوش الصخرية والكتابات العربية القديمة والخط الثمودي والنقوش السبئية والنقوش الإسلامية. وفي عسير تعددت الفنون فشملت الجانب المادي والشفوي، وعكست الكثير من جوانب حياة السكان في هذه المنطقة. هذا وقد تكررت زيارة الكاتب إلى عسير وكلما انتهت الزيارة تمنى أن يعيدها، لأن منطقة عسير تتوفر فيها الخضرة والماء والوجه الحسن، وفي هذه الثلاث قيل (ثلاث يذهبن الحزن: الخضرة والماء والوجه الحسن)، ويضاف إلى تلك الكلمات (الخلق الحسن) وهو ما يتصف به أهل هذه المنطقة، فكم سعد الكاتب بصحبة فئة من أهل أبها ولا سيّما رجالات التربية والتعليم، وكلما زادت الصحبة اتضح الكرم والخلق الرفيع، ولعلّ ذلك ينطبق على جميع أهل عسير، وهذه الشهادة عن تجربة شخصية ميدانية.. تلك عسير.. وهذه أبها المصيف: بنفسي تلك الأرضُ ما أحسن الرُّبا وما أحسن المُصْطاف والمتربّعا بعض المراجع: معجم البلدان للحموي، صفة جزيرة العرب للهمداني، سيرة ابن هشام، 100 جوهرة أدبية (وشائج الوطن) للدكتور/ تنيضب الفايدي، تاريخ طيبة في خير القرون للدكتور/ تنيضب الفايدي، صيد الذاكرة الباصرة من آثار الوطن الحبيب قائمة أو داثرة للدكتور/ تنيضب الفايدي، الأدب يخلد معالم الوطن للدكتور/ تنيضب الفايدي.